11 August 2024
يستمر القصف الإسرائيلي العشوائي والحصار الشامل على غزة لليوم الـ200 على التوالي حيث تم تهجير ما يقارب جميع السكان من منازلهم—أي 2.3 مليون نسمة—من مختلف مناطق غزة. معظم المنازل إما تضررت أو تمت تسويتها بالأرض، وأثّرت الحرب على جميع من في غزة، بمن فيهم طاقمنا هناك.
في التدوينة الأولى من سلسلة "أصوات من غزة" يتحدث وسيم عاشور—مدير دعم البرامج في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب) في غزة—عن الكيفية التي انقلبت فيها كل جوانب حياته رأساً على عقب خلال الشهور الست الأخيرة، كما يشارك آماله بالنسبة للمستقبل:
قبل ست شهور، وفي عطلة نهاية الأسبوع التي صادفت السابع من أكتوبر، كنتُ قد خططتُ للذهاب إلى الشاطئ والسباحة في البحر مع أصدقائي. كنتُ أعيش بالقرب من البحر واعتدتُ في معظم الأيام الذهاب له مشياً للحصول على الهواء النقي، كما اعتدتُ الذهاب إلى الصالة الرياضية كل صباح. بالرغم من الحصار الإسرائيلي الممتد لـ17 عاماً كنتُ أشعر بقليل من الأمن حيث كانت لدي وظيفتي ومنزلي وعائلتي وكنتُ أعتني بصحتي وحميتي.
استيقظتُ في تلك العطلة على أصوات الانفجارات، بدلاً من الذهاب مع الأصدقاء إلى البحر، وأسرعتُ إلى السوق لشراء الطعام واللوازم الضرورية لأنّي أدركتُ أن الحرب آتية واكتفيتُ حينها بالتفكير في الأيام القادمة.
لم أشعر بالأمان أبداً طيلة 200 يوم في غزة فعندما أذهبُ للنوم أعلمُ أنني قد لا أستيقظُ في صباح اليوم التالي. لقد تغيرت حياتي بأكملها منذ أكتوبر الماضي ولن تعودَ كما كانت من قبل فأنا اليوم لا أفعل أيَ شيءٍ مما اعتدتُ فعله سابقاً وما تبقى لي هو عملي—مع خوفٍ وحرصٍ دائمين على من هم حولي.
أسوأ شعور بالنسبة لي كأب لطفلين هو أنني لا أستطيع حمايتهما من خطرٍ قد يودي بحياتهما في أي لحظة. ليس بوسعي أن أفعل شيئاً حيال ذلك. كنتُ أشعر قبل الحرب أنّي مصدر الأمان والرعاية لعائلتي أمّا الآن فأشعرُ بالعجز الشديد تجاههم فلا يمكنني اليوم تأمين احتياجاتهم الأساسية كالطعام أو غاز الطهي. هذه أطول فترة في حياتي لا أستطيع تناول اللحوم فيها وقد خسرتُ حوالي 13كغم من وزني وصرتُ أبدو كشخصٍ مختلفٍ تماماً. أي طعام يتوفر الآن يكون بثمن باهظ.
أما بالنسبة للتنقل في غزة فقد أصبح من المستحيل العثور على وسيلة نقل فالوقود غير متوفر. لا يستطيع الناس التنقل لرؤية عائلاتهم. ]هذا العجز في التنقل مستمر في سياقٍ[ فقدتُ فيه الكثير ممن أحبهم فأعزُّ أصدقائي قُتل، وكذلك صديقٌ مقرّبٌ آخر مع عائلته بأكملها. لقد رحل جميع أصدقائي الذين اعتدتُ رؤيتهم كل يوم.
"لم أشعر بالأمان أبداً طيلة 200 يوم في غزة"
كنتُ أقضي معظم أيامي في الأسابيع الأولى من الحرب مع الجيران والأصدقاء في محاولة انتشال الجثث من تحت ركام المنازل المدمرة. أكثرُ الأيام وجعاً بالنسبة لي كان عندما قُصف منزل صديقي. كان هو وشقيقه الناجيين الوحيدين من عائلتهما واستغرقنا حينها أياماً في البحث عن أدواتٍ تساعدنا في انتشالهم من تحت الركام. الناسُ في غزة حقيقةً يتمنون أن يجدوا أجساد أحبّتهم كاملة فهم يريدون دفن أجسادهم بدلاً من العثور أحياناً على أشلاء متناثرة وأحياناً أخرى على عدم.
نزحتُ 13 مرة خلال الأشهر الست الماضية ولكني الآن لن أذهب لأي مكان آخر. لديّ ثلاث خيارات اليوم: إما أن أُقتل أو أغادر إلى مصرأو تنتهي الحرب. أنا الآن نازحٌ في رفح حيث يوجد أكثر من مليون نسمة. لقد أصبحت المدينة مكتظة جداً وشوارعها على الدوام مملوءة بالناس. إذا نفّذ الاحتلال الإسرائيلي تهديدَه باجتياح رفح فحتماً ستكون هناك كارثة حقيقية.
عندما نزحتُ من منزلي للمرة الأولى بسبب قيام الجيش الإسرائيلي بقصف البيت الملاصق لنا لم أحمل معي أي شيء سوى الثياب التي كنتُ أرتديها؛ ظننتُ أنّي سأعود لمنزلي بعد ساعتين... ولكنّي بعدَ 200 يوم لازلتُ لم أعد. حاولتُ البحث عن ثياب يمكنني شرائها ولكنّي بالكاد وجدتُ شيئاً. لدي الآن قميصان صيفيان وكنزتان وبنطالان وهذا كل ما كنتُ أرتديه طوال الأشهر الست الماضية.
أبذلُ قصارى جهدي يومياً لأستمر في عملي في ماب حيث أبقى في منزل ضيافة تابع لها وأقوم بعملي من هناك ولا أغادره إلا حينما يتطلب عملي ذلك، وهو ما يعني أنني لا أرى إخوتي أو أخواتي فهم بعيدون عني في المنطقة الوسطى من قطاع غزة والتحرك بين المناطق يشكلُ خطراً حقيقياً على حياتنا؛ ولكنّي أقدم لهم الدعم المالي بسبب عدم قدرتهم على العمل حالياً حيث أساند اثنين منهم ممن لديهم أسر يقومون على رعايتها بالإضافة إلى مساندة إحدى أخواتي، وكلّما أجدُ نفسي متفرغاً أحاول توفير الطعام لعائلتي.
العمل لا يتوقف وأنا منهك طوال الوقت ولا أستطيع أن أقدم أكثر مما أقدمه كل يوم، وحتى إذا أردتُ أخذ استراحة فماذا سأفعل بمفردي؟ إذا جلستُ دون القيام بأي شيء فسأشعر بالاكتئاب. لا سلام أو راحة في غزة ولكن ماذا بوسعي أن أفعل؟ حتى أنني لا أستطيع مغادرة غزة فماذا عساي أفعل ؟
أفتقدُ كل شيء كان في حياتي قبل أكتوبر. أفتقدُ بيتي وأفتقدُ الذهاب إلى العمل وإلى الشاطئ وإلى الصالة الرياضية. أفتقدُ العودة إلى المنزل والنوم براحة وأمان ودون شعور بالخوف من القذائف التي قد تقتلني.
أتمنى أن أستطيع العودة لحياتي السابقة فقد كانت الحياة طبيعية أكثر من الآن. أريدُ أن تنتهي الحرب وأن تفتح المعابر وأن يعود العمل إلى وضعه الطبيعي كما كان قبل الحرب. أريد أن نعيد بناء غزة وهو ما سيستغرق منا 10 سنوات على الأقل ولكنّنا سنعيد بنائها حتماً. آملُ ألّا أفقد أيَّ أحدٍ آخر وأن تكون عائلتي وأصدقائي بأمان وأن يمنحهم الله السلام والسعادة.
كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.
نرجو تبرعكم الكريم الآن للمساهمة في استجابتنا الطارئة
هذه التدوينة الأولى من سلسلة "أصوات من غزة "حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. تابعونا لقراءة التدوينات المقبلة
الصورة: وسيم عاشور، مدير دعم البرامج في جمعية العون الطبي للفلسطينيين في غزة.