25 August 2024
غزة، الأرض الفلسطينية المحتلة – تصف ترنيم حمّاد في التدوينة الخامسة من سلسلة "أصوات من غزة" تجربة عملها في المجال الإغاثي والمساهمة في الاستجابة للحاجات الإنسانية خلال أكثر من 200 يوم من القصف الإسرائيلي العشوائي على غزة.
لا تقتصر معاناتنا كعاملين في المجال الإغاثي على خسائرنا الشخصية الناجمة عن الحرب بل نواجه أيضاً صعوبات في عملنا من نقص وسائل الاتصال والمواصلات وصعوبة نقل واستلام الإمدادات وحتى انعدام الأمان والحماية؛ إلا أننا ملتزمون بمواصلة العمل في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب) لدعم المجتمعات الفلسطينية خلال هذا الوقت العصيب. أسردُ فيما يلي تجربتي كعاملة في المجال الإغاثي في غزة.
العمل خلال الحرب
أستيقظُ في كل يوم عمل دون معرفة ما إذا كنت سأعود إلى المنزل وأكابدُ المعاناة في التنقل عبر الطرق المزدحمة وتوخي الحذر من القصف والغارات الجوية المحتملة في كل حين. لقد تحوّلت شوارع غزة التي كانت ذات يوم نابضةً بالحياة إلى شوارع يملؤها الدمار واليأس، فحطام المباني المدمرة يملؤ جوانب الطرق وكل المناطق الواسعة شغلتها الخيام ومراكز إيواء النازحين الذين لا يجدون مكاناً آخر يذهبون إليه. تجد الطوابير في كل مكان تنظر إليه؛ طوابير للحصول على الطعام وطوابير للحصول على الماء وطوابير للحصول على الرعاية الطبية. يكافح الناس من أجل البقاء على قيد الحياة وسط فوضى الحرب ومشهدِ الدمار واليأس الذي فرضته الحرب والذي أصبحت كل مرحلة منه تذكيراً محزناً بالخسائر التي تكبّدناها.
نقضي أيامنا كعاملين في ماب في تقديم المساعدات لمجتمعنا الفلسطيني وهو في حاجة ماسّة لها، سواءً كانت حقائب نظافة أو ثياباً أو فراشاً أو أغطية أو طعاماً أو مستلزمات طبية أو مأوً أو نقاطاً طبية أو دعماً للأسر النازحة. نُضطر في كل مهمة لمواجهة مجموعة من التحديات مثل نقص الإمدادات الأساسية وطرقٍ لا يمكن السير بها والخوف المستمر من قصف محتمل وغيرها من المعيقات التي علينا تجاوزها للوصول إلى المحتاجين.
"يتجددُ مع كل يوم تحدِ تحقيق التوازن بين الحرب والعمل والصحة والحياة الشخصية ولكن التحدي الأكبر ربما هو معاينة التكلفة الإنسانية للحرب ففي أحلامي تلاحقني وجوه الذين فقدوا كل شيء وتفيض أعينهم باليأس والألم"
تكبّدتُ كفلسطينية تعيشُ في غزة خسائراً شخصية بسبب الحرب؛ فقدتُ اثنين من أعمامي الأعزاء واضطررتُ للنزوح وتعرض منزل عائلتي للتدمير الجزئي. ليس من الهيّن أن أبقى على قيد الحياة في غزة فكلُّ يوم بات كفاحاً لتلبية الاحتياجات الأساسية وضمان حصول عائلتي على ما يكفي من الطعام والماء لخوض مشقّة اليوم التالي. كثيراً ما باتت صحتي النفسية والجسدية تتدهور هذه الأيام ولم يسعفني أنني أُصبت بالإنفلونزا وبأمراض أخرى بسبب الهواء الملوث في غزة.
يتجددُ مع كل يوم تحدِ تحقيق التوازن بين الحرب والعمل والصحة والحياة الشخصية ولكن التحدي الأكبر ربما هو معاينة التكلفة الإنسانية للحرب ففي أحلامي تلاحقني وجوه الذين فقدوا كل شيء وتفيض أعينهم باليأس والألم. ما يختبره الناس في غزة بعيدٌ كل البعد عن حياة طبيعية ولعملنا في هذا السياق أثرٌ فارق ودافعٌ للناس لاستعادة إيمانهم بما قد تجلبه الأيام القادمة.
تشتت العائلة
يشكل تشتت العائلة واقعاً مؤلماً يعاني منه الكثير من أهل غزة والعاملين فيها بمن فيهم أنا وزملائي فمع نزوح أفراد العائلة وتفرقهم في مناطق مختلفة تصبح زيارتهم محفوفة بالمخاطر. لقد جعلت الحرب المستمرة وعدم الاستقرار التنقل بين المناطق صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، وهو ما يعني تفريقنا عن عائلاتنا لفترات طويلة فبالنسبة لي لم أرَ أختي أو أبناءها منذ شهور ويزيدُ من ألم البُعد بيننا أنّ غزة صغيرة نسبياً من الناحية الجغرافية حيث يمكن في "الظروف الطبيعية" أن تقطع بالسيارة المسافة من أقصى نقطة في الشمال إلى أقصى نقطة في الجنوب في غزة خلال أقل من ساعتين؛ أما الآن فحتى المسافات القصيرة يصعُب قطعُها في ظل التهديد المستمر بالقصف. أحاول البقاء على تواصل مع أختي عبر المكالمات الهاتفية والرسائل ولكن حتى هذا الخيار غالباً ما يكون صعباً خاصةً عندما تنقطع خدمات الاتصال.
أشعرُ بقلقٍ شديدٍ على والدتي التي تبلغ من العمر 66 عاماً فهي تحتاج إلى إجراء فحصين بالأشعة المقطعية للفخذ العلوي سنوياً لمتابعة حالتها ولكنها لم تتمكن من إجراء أي فحص منذ أكتوبر الماضي؛ وحتى إذا انتهت الحرب فالمرافق الطبية والإجراءات اللازمة ستظل مفقودة، والأسوأ من ذلك أنه لا يوجد فحص بالتصوير المقطعي البوزيتروني في غزة. أنا قلقة جداً على صحتها خصوصاً وأن حالتها تتدهور مع مرور الوقت.
يمكن للبُعد المفروض على المقربّين أن يؤدي إلى مضاعفة مشاعر العزلة والوحدة فالروابط الاجتماعية ونظام دعم العائلة في غزة ضرورة للبقاء على قيد الحياة؛ ليس بمقدورنا اليوم الاحتفال بأعياد ميلاد أحفادنا ولا التجمع للاحتفال برأس السنة أو بعيد الأم أو بليالي رمضان ولا بالأعياد ولا بنهاية العام الدراسي. لقد فاتنا كل ذلك! حتى أن أحد أبناء أختي بلغ الثالثة من عمره وبدأ بالمشي والحديث والتعرف على الوجوه ولكنه لم يتعرف عليّ كخالته ولم يرني خلال مدة الحرب سوى مرة واحدة.
احتياجات إنسانية هائلة
يأخذني عملي في ماب إلى مستشفيات غزة وأشاهد هناك بشكل مباشر الاحتياجات الإنسانية الملحة التي يسعى لتلبيتها نظام الرعاية الصحية. زرتُ مستشفى الأقصى ومستشفى ناصر ومستشفى غزة الأوروبي حيث أرسلت ماب هناك فرق طوارئ من الأطباء المتطوعين وفي كل مرة أدخلُ فيها إحدى هذه المستشفيات أجدُ نقصاً في كل شيء—في الإمدادات والمعدات الطبية، في المستلزمات الأساسية مثل ملاءات الأسرّة الجراحية، وأما المواد الأساسية كالضمادات والحقن والقفازات الجراحية فهي نادرة—مما يضطر الكوادر الطبية إلى اتخاذ قراراتٍ صعبة بشأن استخدام الموارد المحدودة وبما يُضطرهم في بعض الحالات للجوء إلى حلول مؤقتة مثل استخدام الأكياس البلاستيكية المخصصة للجثث (الأكفان) كملاءات للأسرّة الجراحية.
أتواصل أيضاً مع الكوادر الطبية المحلية ممن يتعاملون، رغم الظروف الأشدّ بشاعة، مع أفظع الإصابات التي يمكن أن يتخيلها الإنسان حيث يعمل الأطباء والممرضون والمسعفون في غزة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع تحت التهديد بالقصف ودون الحصول على أجرٍ كافٍ وبكميات قليلة من الطعام والماء والإمدادات الطبية. هم حقاً أبطالٌ خارقون على بقية العالم أن يشعر بالخجل أمامهم. أما طاقم ماب فهو يعمل بلا كلل لسد النواقص حيث شكّلنا فرق طوارئ الطبية للعمل جنباً إلى جنب مع الكوادر الطبية المحلية ونقلنا من مصر لغزة شحنات طبية ضرورية لإنقاذ حياة المرضى والمصابين وكان لمجهوداتنا الجماعية أثر كبير في صون الحياة وتخفيف المعاناة.
كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.
نرجو دعمكم الكريم للمساهمة في استجابتنا الطارئة اليوم
هذه التدوينة الخامسة من سلسلة "أصوات من غزة" حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. تابعونا لقراءة التدوينات المقبلة.