"هذه الحرب سلبتنا كل شيء وحتى كرامتنا"

غزة، الأرض الفلسطينية المحتلة – نشارك في هذه التدوينة من سلسلة "أصوات من غزة" تجربة محمود شلبي—مدير البرامج في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب) في غزة—حيث يتحدث عن مشقّة المعيشة في شمال غزة منذ بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي وعن مكافحته اليومية من أجل البقاء.

قبل الحرب، كنتُ أحب قضاء أيام العطلة مع عائلتي. كان يوم السبت مميزاً لنا جميعاً فكنتُ وزوجتي وأبنائي الثلاثة نتدافع إلى السيارة لنذهب لشراء الفطور مما يرغبه أبنائي ومن ثمَّ تناوله على شاطئ البحر. أقوم لاحقاً بجلب الغداء لنا بعد اختياره من بين الأصناف الشهية التي تزخر بها غزة. نقضي بقية اليوم بعد ذلك في اللعب مع الأطفال أو مشاهدة أحد العروض التلفزيونية أو الأفلام أو القيام ببعض المهام والاستراحة. اختفى كل ذلك الآن.

أيقظتني في يوم السبت، السابع من أكتوبر، أصوات الصواريخ عند الخامسة فجراً. كانت كثيفةً لدرجة أنني لم أستطع العودة للنوم ولازمتُ مع عائلتي التلفاز في ذلك اليوم؛ ليس لمشاهدة العروض أو الأفلام وإنما لمتابعة الأخبار هذه المرة وادراك ما كان يجري. كانت الأنباء حينها أن الحرب وشيكة وفكرتُ في الذهاب للسوق لشراء بعض الحاجات ولكن بسبب حالة الإرباك التي عشناها قررنا للأسف البقاء في المنزل ومنذ ذلك الحين انقلبت حياتنا رأساً على عقب.

أعيشُ في مدينة بيت لاهيا في شمال غزة وقد نزحتُ ثلاث مرات منذ بدء الحرب ولم أتبع أوامر الجيش الإسرائيلي بالإخلاء والانتقال إلى جنوب غزة على عكس كثيرين غيري. لديّ والدان مسنان هنا ولم يكن بوسعهما تحمّل المسافة أو المشي أو المرور عبر حواجز التفتيش الخطرة. تعاني أسرتي كما تعاني كل أسرة فلسطينية في غزة خلال هذه الحرب، والتي فرّقتنا وحرمتنا فرصة رؤية بعضنا البعض.

بالرغم من نزوحي عدة مرات إلا أنني تمكنت من العودة مؤقتاً إلى منزلي الذي كان قد تعرض لدمارٍ جزئيٍ بفعل الهجمات الإسرائيلية. حاولنا إصلاحه لنتمكن من الاستمرار في العيش فيه ومع ذلك اضطررنا للنزوح مرة أخرى إلى مدينة غزة في الأسابيع القليلة الماضية فيما كان رحلة تشرّد ورعب تفوق الوصف.

علمتُ بتدمير 90% من المنطقة التي كنتُ أعيش فيها وشعرتُ بالحظ إلى حدٍ ما لأنني لم يزل لدي مكان أعيش فيه مع عائلتي وأن المكان لنا ولكنّي لست متأكداً الآن من بقاء المنزل على حاله.

اضطر عدد كبير من الناس للنزوح من منازلهم في شمال غزة للعيش في أماكن مؤقتة للإيواء مثل المدارس أو خيام. أرى ظروف هؤلاء الناس عندما أقوم بتوزيع حقائب النظافة والكرامة عليهم خلال عملي في ماب وأشهد صعوبة وتدهور أوضاع معيشتهم ففي المدارس مثلاً قد يصل عدد العائلات التي تعيش في غرفة صفيّة واحدة إلى خمس عائلات مكدسين مع بعضهم البعض وتكون الممرات ممتلئة بالخيام لدرجة أن الناس ينامون على السلالم.

شعرتُ بالارتياح حين تمكنتُ من العودة للعمل مع ماب بعد بدء الحرب لأنّي سأقضي أيامي في مساعدة الأخرين وبالفعل أصبحت أيامي مليئة بالعمل في ظل العدد الكبير من الناس ذوي الحاجة.

" اضطررنا للنزوح مرة أخرى إلى مدينة غزة في الأسابيع القليلة الماضية فيما كان رحلة تشرّد ورعب تفوق الوصف"

بالكاد نحصل على بعض الكهرباء أو الغاز أو بنية تحتية أو فرصة للقيام بأي شيء حين حلول الظلام في المساء، وقد أصبحت كل أوجه الحياة صعبةً حاليا. كنتُ قد اعتدت الاستمتاع ببقائي مستيقظاً لوقتٍ متأخر من الليل أما الآن فأذهب للنوم مبكراً وأنا أدعو ألّا يكون هناك قذائف أو غارات صاروخية أو هجمات حيث توقظني أصوات الانفجارات كل ليلةٍ تقريباً فيما يحرمنا من أي راحة حقيقية. 

أما بالنسبة لأطفالي فلم يعد بإمكانهم الذهاب إلى المدرسة ويقضون كل وقتهم الآن في المنزل. كنتُ قبل عودتي إلى العمل مع ماب أمشي معهم سيراً على الأقدام إلى مخيم جباليا لنحضر الماء الذي توفره الأونروا في ظلّ تلوث مصادر المياه المحليّة في منطقتنا، وكان ابني زكريا، 9 أعوام، يساعدني في حمل الخزانات الممتلئة بالمياه غير المرشحة. هكذا تبدو حياة ابني زكريا الآن؛ يقضيها في حمل خزان مياه ثقيل بينما يجب أن يكون في مدرسته أو مشغولاً باللعب.

ولا نجد شيئاً في الأسواق تقريباً عندما نريد شراء الطعام، وما نجده يكون باهظ الثمن. من الصعب العثور على طعام يحتوي على البروتين أو العناصر المغذيّة للأطفال خاصةً الخضراوات. تناولنا بعض الطعام الذي حصلنا عليه من الإنزالات الجوية لكنه لم يكن كافياً ولا حلالاً واضطرتُ رغم كوني مسلماً أن أتناوله من أجل البقاء على قيد الحياة. هذا بالإضافة إلى صعوبة توفير المال لشراء أي شيء.

لم يكن شهر رمضان هذا العام مشابهاً لرمضان في السنوات الماضية بأي شكل فلم يكن لدينا طعام نشاركه مع الآخرين ولم تكن العائلة أو الأصدقاء أو الجيران موجودين لنشارك معهم الطعام. كنتُ في الوضع الطبيعي أذهبُ للصلاة في المسجد أما الآن فجميع المساجد هنا دُمرت ولم يتبقَ أي مسجد أو حتى أي شعور بالروحانية. أنا الوحيد من عائلتي الذي بقيت في الشمال حيث نزح جميع أقاربي إلى الجنوب ولا أعلم كيف حالهم وأين يقيمون. كنا معتادين على رؤية الشوارع مليئة بالسعادة والمرح في هذا الوقت من العام ولكن الناس يمشون هنا الآن كما لو أنّهم أموات-أحياء.

نعملُ جنباً إلى جنب في ماب مع الطواقم الطبية المحلية حتى في حينٍ بالكاد تبقّت فيه أي مرافق صحية عاملة ودون أن يكون أي منها عاملةً بكامل طاقتها. أتحدثُ يومياً مع الكوادر الطبية عن نقص الأدوية والمستهلكات الطبية وأسمعهم مراراً وتكراراً يطلبون من بعضهم البعض أشياءً غير متوفرة ويُضطر كلٌّ منهم إلى الرد دائماً: "لا، ليس لدينا أيٍ منها." كما نفذت الأدوية من صيدليات المستشفيات وحُرمت الصيدليات الخارجية من سُبل التوريد الخاصة بها.

أكرّس عملي كأحد أفراد طاقم ماب من أجل صحة وكرامة الفلسطينيين. أحب مفردة "الكرامة" لأنها تفي في تعبيرها عن الفلسطينيين فنحن أهل شرف وكرامة لكنّ هذه الحرب سلبتنا كل شيء وحتى كرامتنا. عشنا شهوراً من التنقل بين معاناةٍ وأخرى والمكافحة لشراء الطعام وتقديمه لأطفالنا والهجمات المروّعة والخطر فلا مكان آمن ولا بات بمقدورنا التركيز على الأمور العادية مثل التعليم والعمل لأننا قلقون ومشغولون كل يوم بتلبية احتياجاتنا الأساسية.

أشعر بالامتنان كل يوم لبقائي وأطفالي على قيد الحياة ولكنّي أتمنى من أعماق قلبي أن يتم وقف إطلاق النار اليوم لكي نستطيع أخيراً التقاط أنفاسنا. أكثر ما أفتقده من حياتي قبل الحرب هو الشعور بالأمان والسلامة. أريدُ أن ينتهي هذا الاحتلال وأن تستعيد مدينتي غزة نفسها، خطوة بخطوة.

كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.

نرجو تبرعكم الكريم الآن للمساهمة في استجابتنا الطارئة

هذه التدوينة السادسة من سلسلة "أصوات من غزة"حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. تابعونا لقراءة التدوينات المقبلة.

في الصورة: محمد شلبي من شمال غزة.

Stay updated – join our mailing list

Sign up for our newsletter to receive all the latest updates from our programmes, campaigns and fundraising appeals.

* indicates required
Your Interests