27 August 2024
غزة، الأرض الفلسطينية المحتلة – نشارك في هذه التدوينة من سلسلة "أصوات من غزة" تجربة هيثم السقا—مسؤول البرامج المجتمعية في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب)—حيث يسرد فيها ذكرياتٍ من حياته قبل بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة في أكتوبر الماضي ويتحدث عن بعض أصعب التحديات التي واجهها خلال الشهور الثمانية الماضية.
اعتدتُ أنا وزوجتي وأطفالي الجلوس معاً في حديقتنا كل يوم جمعة قبل الحرب على غزة. لدي ابنة اسمها لور وتوأم اسمهما ناي وناهض. احتفلنا خلال فترة الحرب بعيد ميلاد لور السادس وبعيد الميلاد الثاني لناي وناهض. كنا في اليوم السابق لبداية الحرب جالسين مع عائلتي الممتدة في حديقتنا لتناول الغداء حيث أقمنا حفل شواء يومها وكانت خطتنا لليوم التالي الذهاب إلى شاطئ البحر فقد اعتدنا أخذ الأطفال هناك كل سبت للعب سوياً وتناول الطعام وقضاء اليوم كله على الشاطئ؛ إلا أننا استيقظنا في صباح السابع من أكتوبرعلى الأصوات المدوية والانفجارات وبقينا في المنزل لمتابعة الأخبار ومعرفة ما يجري.
بدأت قوات الجيش الإسرائيلي بعد خمسة أيام فقط بتضييق الخناق على منطقتنا حتى نزح الناس إلى منزلنا ووصل عدد الذين لجؤوا في منزلنا إلى 100 شخص، وفجأة اضطر الجميع إلى النزوح إلى منازل أخرى. كانت هذه أول مرة نُضطر فيها أنا وعائلتي لمغادرة منزلنا قسراً.
أعيش حالياً في منزل عائلة زوجتي والذي يلجؤ فيه نحو 55 شخصاً من ثمانِ عائلات. يقع المنزل في منطقة المواصي غرب رفح والتي بالرغم من إعلانها "منطقة آمنة" من قِبَل الجيش الإسرائيلي إلا أنه استهدف الخيام القريبة منا فيها بالغارات الجويّة وبما أسفر عن مقتل وإصابة عدد من الفلسطينيين.
يعيش الجميع في غزة في حالة من الخوف والقلق المستمر بسبب أصوات الطائرات الحربية والمسيّرة التي لا تفارق السماء وبسبب أصوات الانفجارات التي تدوّي من كل مكان حولنا. يبقى أطفالي خائفين دوماً وأظلُّ خائفاً عليهم طوال الوقت دون أن أدرك طريقةً أو كلاماً لطمأنتهم.
كنتُ أعاني في محاولاتي لتأمين الحليب أو الغذاء لأطفالي بعد مرور شهرين على الحرب، أي في أواخر ديسمبر، وكان من الصعب عليَّ رؤية وجوههم شاحبةً وظهور علامات فقر الدم عليهم. شعرتُ بالعجز ولم أعرف ماذا أقدم لهم خاصةً طفليَّ التوأم واللذين لم يبلغا من العمر سوى عامين فقط.
اضطررتُ للاتصال بكل من أعرفه وسؤال حتى الغرباء الذين عبرتُ بهم في الشوارع في محاولةٍ لتوفير أي كمية من الحليب والذي حين وُجد كان بكميّات قليلة وأسعارٍ باهظة حتى أن ثمنه بلغ أحياناً 80 شيكل (16 جنيه إسترليني)، بينما كان سعره قبل الحرب لا يتجاوز 10 شيكل (2 جنيه إسترليني). كانت هذه أزمة يومية بالنسبة لنا، كما لازلنا نواجه صعوبة كبيرة في تأمين غاز الطهي مما يضطرنا لشراء الخشب لإشعال النار لطهي الطعام. نحاول قدر الإمكان الحفاظ على كمية محددة من الغذاء وخاصةً للأطفال.
كانت آخر مرة شعرنا فيها بالفرح في عيد ميلاد الأطفال في ديسمبر حيث قمنا بصنع كعكة على النار ووجدنا شموعاً وضعناها عليها وابتسمنا وضحكنا كما لو لم تكن هناك حرب.
"أتمنى ألّا نواجه المزيد من القتل حولنا"
دمرّت الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة منزلي ومنزل والدي ومنزل جدي بشكل كامل تقريباً حتى أن الحجارة التي كان بإمكاننا الاحتفاظ بها كذكرى لم تعد مرئية وكأن الأرض ابتلعتها.
يعلم المقرّبون مني أنّي أحب مشاهدة كرة القدم وأن فريقيّ المفضلين هما ليفربول والأهلي المصري. كنت أيضاً معتاداً على لعب كرة القدم مرتين في الأسبوع أما الآن فليس بإمكاني فعل ذلك و لم أتمكن طيلة الأشهر الثمانية الماضية من متابعة أي أخبار حول ما يجري في بطولات الدوري، كما تم قتل أحد أصدقائي في فريق كرة القدم. كانت الرياضة جزءً كبيراً من حياتي ووسيلة لتخفيف التوتر؛ كيف يمكنني تفريغ كل هذا التوتر الآن؟
عندما تمكنتُ من العودة لمنزلي قبل استهدافه بصاروخ إسرائيلي أخذتُ معي بعض الثياب التي بقيت بعد نزوحنا الأول ووجدتُ قميص فريق الأهلي ممزقاً وكان وشاح وعلم فريق ليفربول ممزقَيْن ومحترقَيْن على الأرض. كانت هذه ممتلكات ثمينة بالنسبة لي ومنحتني الكثير من السعادة واعتدتُ ارتداءها طوال الوقت.
كانت إصابتي بالتهاب الكبد الوبائي واحدة من أصعب التجارب التي مررتُ بها خلال الحرب حيث عانيت منه لثلاث أسابيع وعندما ذهبتُ للمستشفى لم يتم فحصي أو تشخيص حالتي وإنما حقني بالڤولتارين (ديكلوفين) لتخفيف الألم والالتهاب، وحين شعرتُ بالإرهاق هناك فكرتُ بحال الأشخاص ذوي الاصابات أو الأمراض الأكثر خطورة من التهاب الكبد الوبائي.
التقيتُ في المستشفى بأحد جيراني وكان في مرحلة مبكرة من الإصابة بالغرغرينا في إصبعه والذي قرر الأطباء بتره فيما جعلني أتساءل: كيف سيتعاملون مع حالته إذا كان كل ما بوسعهم تقديمه لي هو حقنة الڤولتارين؟ أخبرني ابنه بعد ثلاثة أيام أنه سيخضع لعملية بتر أخرى وعندما تعافيتُ من مرضي قبل يومين اتصلتُ بابنه لأطمئن على حالته فأخبرني أنه سيخضع لعملية بتر جديدة ولكن هذه المرة لساقه بالكامل. دفعني هذا التدهور السريع في صحة جاري للتفكر في ثلاث قضايا خطيرة: إلى أي مدى يتم اتباع تدابير مكافحة العدوى في المستشفيات؟ وهل هذه التدابير فعالة؟ وحتى إنْ كانت كذلك فماذا عن المياه العادمة المنتشرة في الطرقات؟ نحن نواجه كارثة صحية عامة ستؤثر على صحة الناس وفرص تعافيهم.
وصل بي الحال للشك في جدوى ما أقوم به كشخص ذي إعاقة يؤمن بحقوق ذوي الإعاقة ويسعى لنشر هذا الإيمان من خلال التعليم والتدريب فقد بتُّ أرفض العروض التي تُقدّم لي للتحدث إلى وسائل الإعلام أو المؤسسات الأخرى؛ ليس لأنني فقدتُ إيماني بقضيتي ولكن لأنني أشعر أن الكلمات فقدت معناها.
وفيما يتعلق بالتحديات التي تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة فلم تكن الكراسي المتحركة متوفرة في غزة في الفترة ما بين يناير ومارس ولا أحد يعلم كيف تم توزيع الكراسي التي كانت في المخازن حيث اُضطر الناس لاستخدامها في نقل المياه في تلك الفترة مما أدى لعدم توفرها للأشخاص ذوي الإعاقة وبالتالي الحدّ من قدرتهم على الحركة والتنقل. هذا الوضع حدَّ من قدرة المؤسسات مثل ماب على تقييم الاحتياجات الإنسانية للأشخاص ذوي الإعاقة أو مساعدتهم في إمكانية الوصول لأي خدمات متاحة. وحتى لو تم توفير الكراسي المتحركة فإن التنقل في الشوارع باستخدامها أصبح مستحيلاً بفعل حجم الدمار الهائل الناجم عن الهجمات العسكرية الإسرائيلية.
أتمنى ألا نواجه المزيد من القتل حولنا. أريد أن ينتهي هذا الوضع للأبد وليس بصيغة وقف إطلاق نار مؤقتة تتبعها حرب أخرى بعد عامين. يجب أن ينتهي هذا الكابوس إلى الأبد فأنا أريد لأطفالي مثلاً أن يكملوا تعليمهم—في تَمَنٍ باتَ صعباً باعتبار ما لا ندركه من المقبل علينا في اليوم التالي.
أردتُ في هذه التدوينة مشاركة ما هو أسهل للتعبير لكنّي لا أريد أن الكذب فالأمور صعبة هنا؛ دائماً ما قلنا نحن الفلسطينيون للعالم 'ألا يغفلوا أي أحد' ولكننا في غزة اكتشفنا أننا مستثنون من تطبيق العبارة فقد تُركنا وحدنا وتخلّى عنا الجميع. يواصل الناس في أنحاء العالم حياتهم ولا يرون معاناتنا أو كم أصبحت الحياة بئيسة هنا. يجب على العالم أن يتدخل لوقف ما يجري لنا في غزة.
كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.
نرجو تبرعكم الكريم الآن للمساهمة في استجابتنا الطارئة
هذه التدوينة السابعة من سلسلة "أصوات من غزة"حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. يمكنكم قراءة التدوينات السابقة هنا والاطلاع على التدوينات المقبلة عبر متابعتنا.
في الصورة: هيثم السقا في غزة.