"يركض أطفالي نحوي حين وصولي المنزل كل يوم وأشعر بالراحة حين أعانقهم بشدة"

غزة، الأرض الفلسطينية المحتلة — نشارك في التدوينة الثالثة من سلسلة "أصوات من غزة" تجربة محمد الخطيب—مدير البرامج في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب) في غزة—والذي يلجأ حالياً مع عائلته في رفح بعد نزوحهم للمرة الثامنة خلال الحرب على غزة. يروي محمد في تدوينته تجربته خلال الحرب كأب وزوج وعامل في المجال الإنساني في غزة وكيف يستطيع المضي قدماً رغم النزوح المتكرر وهجمات الجيش الإسرائيلي المتواصلة.

أعيشُ صراعاً مؤلماً بين حياتيّ العملية والأسرية  خلال كل يوم عمل في الحرب. تظلُّ زوجتي وأبنائي الأربعة في انتظاري في المنزل—يبلغ أكبرهم 13 عاماً وأصغرهم عاماً ونصف. أغادرُ المنزل إلى العمل حيث أقضي معظم اليوم هناك بينما يتخللنا جميعاً شعورٌ بالقلق بشأن سلامة بعضنا البعض ولا نتمكّن من الاطمئنان على بعضنا البعض حتى أعود في ظل انقطاع الاتصالات والانترنت. يركض أطفالي نحوي حين وصولي المنزل كل يوم وأعانقهم بشدة من شعوري بالارتياح والسعادة بأننا جميعاً بخير؛ دون أن يمنع ذلك الخوف الشديد من مروادتي بأن أصل المنزل ذات يوم وأجد شيئاً آخر بانتظاري.

أقصدُ بـ"المنزل" في سياق الحرب أي مكان نقيم فيه فقد تم تهجيرنا ثمانِ مرات خلال سبعة أشهر ونزحنا قسراً من مدينة غزة إلى خانيونس وبعد ذلك إلى رفح والتي يقوم الجيش الاسرائيلي الآن باجتياحها برياً، ولا أحد يدري مكان الاجتياح القادم. تشكّلُ هذه الحالة من الخوف والشعور بالخطر ضغطاً نفسياً مستمراً علينا إذ أصبحنا جميعنا مرعوبين ومنهكين ولا نعلم إلى أين نذهب أو ماذا نفعل من أجل الحفاظ على سلامتنا. من الصعب جداً أن أواصل حياة طبيعية في غزة في ذات الأوان الذي لا يغيب فيه انعدام الأمن عن بالي.

ما نَمرُّ به هو حال كل عائلة تحاول النجاة في غزة حيث قصف الجيش الإسرائيلي منزلنا في مدينة غزة بينما كنّا بداخله، وفقدتُ اثنين من أفراد عائلتي، ونتعرض لأصوات القنابل المستمرة ونرى البيوت المباني وقد تهشّمت نوافذها وتحطمت أبوابها، وتم استهداف الكثير من الأماكن التي نزحتُ إليها—حتى تلك الواقعة في نطاق ما يدّعي جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه "الممر الآمن" المؤدي إلى جنوب غزة. أنا محظوظ ببقائي على قيد الحياة حتى الآن.

يسيطر الخوف على أطفالي على الدوام بسبب أصوات الحرب ويهرعون إليَّ أو إلى والدتهم عند سماعهم أصواتاً مدويّة أو قريبة. سألتني ابنتي ذات مرة: "بابا، إنهم يقصفون ليلاً ونهاراً؛ ألا ينامون أبداً؟" حاولت الضحك قليلاً ومن ثم تغيير الموضوع إلى شيءٍ مضحك لأخفف من خوفها ولكنّ سماع طفلتي تسأل عن هذه الأمور عن الجنود القريبين منّا كان أمراً مقلقاً بالنسبة لي.

كانت ماب من أوائل المؤسسات التي استجابت لحالة الطوارئ الحالية ودعمت النظام الصحي من أجل التعامل مع العدد الهائل من الإصابات والجرحى، حيث استمر الطاقم طيلة القصف والحصار الإسرائيلي على غزة بتوزيع المواد الطبية المخزنة على المستشفيات وتنظيم عمليات شحن المواد الطبية من الخارج وكذلك استقطاب فرق طوارئ من الأطباء المتطوعين الذين عملوا جنباً إلى جنب مع الكوادر الطبية المحلية لتقديم الرعاية الطارئة للمصابين. 

كما قمنا بالتنسيق مع شركائنا المحليين لدعم آلاف النازحين في مواجهة ظروف النزوح والجوع والقصف، وأنشأنا نقاطاً طبية داخل مخيمات اللجوء وقمنا بتوزيع حقائب النظافة الأساسية والكرامة، ونبحث حالياً سبل توفير الغذاء للناس نظراً لظروف المجاعة الوشيكة.

"نزحنا قسراً من مدينة غزة إلى خانيونس وبعد ذلك إلى رفح والتي يقوم الجيش الاسرائيلي الآن باجتياحها برياً، ولا أحد يدري مكان الاجتياح القادم"

أشعرُ بالفخر لكوني جزءً من استجابة ماب في غزة ومساهمتي في تقديم هذا الدعم الضروري لذوي الحاجة، وهذا ما أسعى لفعله يومياً عند الخروج من المنزل؛ ولكن الواقع يتطلب مني باستمرار مواجهة الكثير من المخاوف المتعلقة باللوجستيات والأمن من أجل القيام بهذا العمل الإنساني فدائماً ما أكون في زيارات ميدانية لرؤية الأشخاص المحتاجين ولتنسيق العمل مع شركائنا ونحن نعمل في مناطق قد تُصنّف اليوم على أنها "مناطق آمنة" ولكنّها قد تصبح "مناطق خطيرة" في اليوم التالي.

هناك مراتٌ عديد كنّا فيها قد خططنا لتلبية الاحتياجات الصحية والإنسانية في منطقة معينة ولكن سرعان ما تعرضت المنطقة للهجوم الإسرائيلي ومنعنا ذلك من الوصول إليها. نحن نواجه الكثير من التأخير في العمل وينطوي ذلك على حياة أو موت شخصٍ ما. في إحدى المرات التي ذهبتُ فيها إلى خانيونس حوصر طاقمنا بسبب سلسلة من الهجمات القريبة منا وأصبحنا عالقين بين الانفجارات والشظايا والحطام والدخان ولكن لحسن حظنا لم يُصب منا أحد بجروحٍ خطيرة.

هذا العمل صعبٌ للغاية ويصبح أحياناً شبه مستحيل كما الحال في شمال قطاع غزة—بالرغم من علمنا بوجود أشخاص في أمس الحاجة لخدماتنا هناك بمن فيهم زملائنا وعائلاتنا. إنّ عجزَنا عن مساعدة هؤلاء الناس يثقلُ كاهلنا جميعاً ويجعلنا نشعر بالأسى، كما يتضاعف حزننا وإحباطنا جرّاء شعورنا بالمسؤولية تجاه حياة الأشخاص من حولنا بمن فيهم أعضاء طاقمنا دون أن يكون بمقدورنا الوفاء بتلك المسؤولية. تلك المسؤولية بالنسبة لي تشملُ أيضاً حياة عائلتي والتي أتركها خلفي كل يوم دون أيّ يقين حيال مصيرهم.

تشكّلُ كلُّ هذه التحديات عبئاً ثقيلاً على كلّ عاملٍ في المجال الإنساني في غزة ولكنّنا سنواصل سعينا وقيامنا بكل ما بوسعنا مهما كلّف الأمر. أستدركُ هنا الهجوم الذي استهدف العاملين في المجال الإنساني من منظمة المطبخ المركزي العالمي والذين شعرتُ بالأسف الشديد عليهم فهم جاؤوا هنا للمساندة وباسم الإنسانية المشتركة في وجه الأوقات العصيبة. لقد ظنوا أنهم آمنون، كما ظنّت عائلاتهم والمؤسسات التي عملوا بها؛ ولكن لا أحد آمن في غزة فالكثير من الأبرياء والآلاف من الأطفال تم قتلهم. هذه الحقيقة المؤسفة وعلينا نحن العاملون في المجال الإنساني هنا أن نكون مستعدين لتحمّل تلك المخاطرة.

أتمنى كعاملٍ في المجال الإنساني أن أتمكن من القيام بعملي بالشكل المطلوب والتخفيف من معاناة الناس. هناك الكثير من ذوي الحاجة للمساعدة الآن سواءً من عائلات النازحين أو المرضى في المستشفيات. جميعهم يحتاجون إلى الحماية والدعم الذي نقدمه لهم. أتمنى أيضاً أن أطمئن على عائلتي وأحبائي وألّا يكونوا في خطر، وأدركُ أن هذا غير ممكن ولن يكون سوى باتفاق فوري ودائم لوقف إطلاق نار في غزة.

 

كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.
نرجو دعمكم الكريم للمساهمة في استجابتنا الطارئة اليوم.

 

هذه التدوينة الثالثة من سلسلة "أصوات من غزة" حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. تابعونا لقراءة التدوينات المقبلة.

 

في وسط الصورة: محمد الخطيب، مدير البرامج في ماب في غزة

Stay updated – join our mailing list

Sign up for our newsletter to receive all the latest updates from our programmes, campaigns and fundraising appeals.

* indicates required
Your Interests