28 October 2024
أطلقت قوات الجيش الإسرائيلي قبل شهرين من اليوم، بتاريخ 28 آغسطس، اجتياحها العسكري الأكبر في الضفة الغربية منذ عقود حيث استهدفت فيه مدينة جنين ونابلس وطوباس وطولكرم وقامت بعرقلة وصول كل من الجرحى للمستشفيات وسيارات الإسعاف لأماكن الاجتياح.
واجه الفلسطينيون عقب الاجتياح في جنين 10 أيام من الحصار الذي فرضه الجيش الإسرائيلي، وقد تحدثنا في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب) مع مواطنين من جنين للتعرف على آثار الاجتياح، من ضمنهم رئيسة ومنسقة برامج في جمعية "كي لا ننسى" والتي ستتعاون ماب معها قريباً من أجل خدمة الفلسطينيين في الضفة الغربية، بالإضافة إلى إحدى سكّان جنين وهي أم لأربعة أطفال تعرضت مع أسرتها لاعتداء قوات الجيش الإسرائيلي أثناء اجتياح الأخيرة مخيم جنين في يوليو 2023.
شكّل اجتياح المدينة ومخيم اللاجئين في جنين مؤخراً إحدى أصعب الفترات التي اختبرتها طيلة حياتي فقد عشنا تحت الحصار طيلة 10 أيام عصيبة دون أي كهرباء أو ماء. توجهّت النساء اللاتي أعمل معهنَّ في الجمعية واللاتي يعشن في المخيم لي طلباً لمساعدتهن في الخروج أو لتوفير الغذاء والدواء ولكننا لم نستطع فعل أي شيء. لقد شعرت بالعجز المطلق وخاصةً لأنني لم أستطع حتى رؤية أو الوصول لابنتي أو أحفادي الذي يعيشون بالقرب مني.
ولكن بالرغم من هذه الظروف القاسية إلا أن شباب المخيم كانوا بصيص أمل لنا فقد خاطروا بحياتهم من أجل إيصال الخبز والماء للأسر ذات الحاجة مستخدمين في ذلك مركبات كهربائية رباعية (تركترونات) في ظل انعدام القدرة على قيادة السيارات عبر الشوارع المدمرة. كان التضامن بين الجيران دافعاً لطمأنتنا وأخذنا بتشارك مواد الغذاء القليلة التي توفّرت لدينا وقمنا بطهي الطعام سوياً لأسرنا وجيراننا.
تواصلنا في البداية مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لمساعدتنا في تلبية حاجات السكّان وبينما تمكنوا في البداية من ذلك إلا أن القوات الإسرائيلية أعاقت تحركهم عبر تفتيش كل شيء وحتى أكياس الخبز ورمي مواد الغذاء. لم يتمكن الهلال الأحمر من مواصلة مساعدتنا بعد ذلك ولكن المتطوعيين—والعديد منهم كان قد تلقّى في جمعيتنا تدريباً على الاسعافات الأولية ودعم الصحة النفسية—قاموا بإيصال معونات أساسية خلال الأزمة.
رسالتي للنساء في المملكة المتحدة هي أننا جميعاً أمهات ولدى كلٍّ منّا قلبُ أمٍّ يشعر بالآخر. أطلب منهنّ أن يتخيلن معاناة الأمهات الفلسطينيات واللواتي يتحملن منذ فترة طويلة جداً ألماً لا يمكن تخيّله من فقدان أطفالهن برصاص الجيش الإسرائيلي ودون أن يتمّ محاسبته على ذلك. أما لحكومة المملكة المتحدة فإنني أقول بأنه من غير المقبول أن تواصل تغطيتها السياسية لإسرائيل؛ لقد حان الوقت للوفاء بمسؤوليتها وأخذ إجراءات جادّة لتحقيق العدالة.
أعيش في حيّ الجابريات والذي يطل من الأعلى على مخيم جنين للاجئين. اجتاحت القوات الإسرائيلية مدينة ومخيم جنين في منتصف الليل ولم تترك وقتاً للأسر لمغادرة بيوتها. حاولت الكثير من الأسر الفرار فور بدأ الاجتياح وسماعهم التحذيرات التي أذاعتها مآذن المساجد والتي أصبحت وسيلة تحذير مبكر فعّالة في مدينة ومخيم جنين.
طوّقت القوات الإسرائيلية المخيم بالكامل وأغلقت مدخل المستشفى العام فيه كما سيطرة على كافّة المداخل والمخارج وقام الجنود باطلاق النار على مولدات الكهرباء الرئيسية بما تسبب في إغراق المخيم في الظلام. عادةً ما تشوّش القوات الإسرائيلية قنوات التواصل خلال اجتياحها إلا أنها قطعت كل شيء هذه المرة: خطوط الهاتف الأرضي والمحمول والإنترنت وحتى شبكات اتصال الجيل الثالث.
كان الدمار هائلاً حيث جرّفت القوات الإسرائيلية الشوارع وقامت بمحو البنية التحتية بما فيها شبكات المياه والأنابيب الرئيسية، ولم يكن اقتحام القوات لبيوت الناس أقل عنفاً فقد حطم الجيش الجدران والأثاث وسرق كل ما وجده في طريقه، كما قام جنوده في بعض البيوت بترك آثار تبول وتبرز على الأسرّة والأثاث وأدوات المائدة؛ ومن المؤسف أن هذا السلوك ليس بجديد علينا فقد شاهدناه خلال الاجتياحات السابقة.
عندما اقتحمت قوة إسرائيلية بيتنا قامت بدايةً بمصادرة هواتفنا المحمولة وأغلقت علينا الباب في غرفة لمدة ست ساعات دون قدرتنا على التواصل مع أي أحد، ثم أمرنا قائد القوة بمغادرة البيت دون إعطاءنا هواتفنا. لم يكن لدينا خيار سوى اللجوء إلى بيت جارنا لثلاث أيام حتى انسحبت القوة من حيّنا، وحين عدنا للبيت وجدناه شبه مدمر حتى أن الطعام الذي كان في الثلاجة قد تم أكله.
من المعروف أن الجنود الإسرائيليين يسرقون المنازل خلال اقتحامها ولذلك قمت بإخفاء أموالنا في صدري حين رأيتهم يقتبرون من البيت، واكتشفنا حين عودتنا للبيت أنهم قد سرقوا شواحن هواتفنا وبطاريات الطاقة الشمسية وهدايا تذكارية وحتى السيجار الخاص بزوجي.
أخبرني زوجي حين اقتراب القوات الإسرائيلية من بيتنا أنه سيفتح الباب قبل أن يفجره الجنود ولكننا فجأةً سمعنا انفجاراً على الباب واقتحم الجنود البيت مع كلابهم، قاموا بعدها باحتجازي وابنتي التي تبلغ 16 عاماً في غرفة مغلقة مع كلبٍ أخذ يهاجمنا بوحشية حيث عضَّني في رأسي وابنتي في وجهها وهو ما تسبب بنزيف حادّ. طلبتُ النجدة من الجنود ولكنهم لم يستجيبوا بينما استمر الكلب في مهاجمتنا.
وصلتُ مرحلةً انقضَّ فيها الكلبُ عليَّ وخنقني بجسده الوحشي والثقيل، بالكاد استطعتُ التنفس أو الكلام، وفي النهاية تمكنت ابنتي من دفع الكلب بعيداً عني وهي تصرخ وطلبت مني الابتعاد. تحمّلنا هذا العذاب لساعات قبل أن يفتح جنديٌّ الباب أخيراً وأوقف الكلب عن مهاجمتنا بكلمة واحدة وأخذه إلى جنبه.
توسّلتُ للجندي أن ينظر إلى ابنتي وقد تلطخ وجهها بالدم إلا أنه قال لي: "لا تقلقي، معنا مسعف". جاء بعدها "المسعف" المزعوم والذي لم يفعل شيئاً سوى أن أعطاني مناديلاً مبللة وأخبرني أن أضعها على وجه ابنتي وأن أمسكها بقوة.
قام الجنود أيضاً باستخدام الأصفاد لتقييد ابني الأكبر والذي يبلغ 15 عاماً ووضعوه في غرفة مع كلب آخر وأخذ الجنود بالتحقيق معه بينما استمر الكلب بمهجامته بوحشية. كرروا عليه السؤال عن موقع أبيه وموقع أصدقاء أبيه وأماكن الأسلحة، ولم أتمكن سوى من سماع صراخه وقوله أنه لا يعرف عن ماذا يتحدثون.
جمّعونا لاحقاً في تلك الليلة في غرفة واحدة وأجبرونا على الجلوس أمام الشبابيك كدورع بشرية لهم، ونقلونا بعد فترة إلى غرفة أخرى وأغلقوها علينا بعدما قاموا برمي قنابل غاز كادت لتخنقنا بداخلها. أدركتُ حينها أنها كانت اللحظة الأخيرة في حياتي وأنني لن أرى أطفالي بعدها وقمتُ باحتضانهم والاستلقاء على الأرض لتنجب ما يمكن تجنبه من الغاز. لم يكن بمقدوري حتى التنفس وفجأة قام جنديٌ بفتح الباب والسماح لنا بالخروج—لو أخذه الأمر ثوانٍ أكثر لكنتُ مُتّْ.
لقد تسبب الجنود في تلك الليلة بأذىً نفسيٍ كبيرٍ لنا والذي حرم أطفالي النومَ لأسابيع حتى أن ابني الأصغر عانى من كوابيس متكررة وأصبح يستيقظ في حالة هلع خلال الليل جرّاء ظنّه أن القوات الإسرائيلية ستهاجمنا من جديد؛ أما أنا فلا أستطيع رؤية الكلاب دون الشعور بنوبة هلع ويعود لي شعور تلك الليلة المروعة كلما رأيتُ كلباً؛ أفقدُ السيطرة وأبدأ بالصراخ بشكل لاإرادي. كما أنني كلما رأيتُ مجموعة من الأفراد يمشون سوياً أتخيّلهم جنوداً ويتملكني شعور بالخوف والقلق. لازال هذا الرعب يلاحقنا كل لحظة ولن يزول بسهولة.
صعّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون من هجماتهم في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بالتزامن مع الهجوم المستمر لأكثر من عام على غزة، وأسفر عنفهم المتصاعد منذ أكتوبر 2023—بما فيه عبر القصف جواً—عن قتل ما لا يقل عن 702 فلسطيني.
تخطط ماب عبر شراكتها المقبلة مع جمعية "كي لا ننسى" لتقديم تدريب مهني للنساء في مخيم جنين للاجئين من أجل مساعدتهن على تعزيز فرص عملهن واستقرارهن المالي بما يحسّن بدوره من سلامتهن، كما تحضّر ماب لتوفير خدمات الاستشارة النفسية وتجهيز إمدادات أساسية يسهل تقديمها لـ1,100 طفل خلال حالات الطوارئ.
نرجو مساهمتكم في مساندة استجابتنا الطارئة في الضفة الغربية وغزة ولبنان
صورة: من اليسار لليمين سُعاد وفرحة وسماح في مخيم جنين للاجئين (مصدر: فايز كواملة/ماب)