"أتمنى العودة إلى المكان الذي كان فيه منزلنا ذات يوم لأبحث عن أي شيءٍ يحمل ذكريات حياتنا قبل الحرب"

غزة، الأرض الفلسطينية المحتلة – نخصصُ هذه التدوينة من سلسلة "أصوات من غزة" لنورز أبو لبدة—مسؤولة الشؤون الإدارية والمالية في جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب)، حيث تسردُ قصتها في فقد ابنها وفقدان كل شيء خلال سبع شهور من الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، وتشاركُ أمنيتها في العودة إلى منزلها مع عائلتها الحبيبة يوماً ما.

تحذير: تحتوي هذه التدوينة على تفاصيل مؤلمة من العنف الاسرائيلي ضد المدنيين في غزة.

كانت الأشهر السبعة الماضية أصعب الأوقات التي مررت بها طوال 54 عاماً من حياتي. لم أواجه مثل هذا الحزن والفقدان والهمجية من قبل فقد خسرتُ الكثير خلال هذه الحرب. قُتل ابني الأكبر مجد، 27 عاماً، بطريقة وحشية وأودى هذا العنف الغاشم بحياته؛ لقد جمّعنا أجزاءً من رأسه قطعةً قطعة. كما تم قتلُ أخي الأصغر قنصاً أثناء حماية زوجته وأطفاله الصغار الثلاثة، وأُصيبت ابنة أخي، 18 عاماً، في هجوم إسرائيلي آخر وفقدت عينها اليسرى، واُعتقل شقيقٌ آخر لي بشكلٍ تعسفي وتعرض للتعذيب والضرب المتكرر على الرأس قبل أن يُطلق سراحُه ويعود بجسدٍ مليءٍ بآثار التعذيب وساقين مكسورين وندوبٍ جسدية ونفسية.

كما فقدتُ منزلي خلال الحرب بسبب القصف المتواصل ولم يعد لعائلتي مأوى نلجئ إليه، وتم تدمير منازل أبنائي وقد كانت كل ما ادختره عائلتي طوال حياتنا. لم يتبقَّ لنا شيء الآن. حتى منزل أمي الوحيد الذي بقي على حاله حينها تم قصفه قبل ثلاثة أسابيع، حيث كان إخوتي وأخواتي الذين فقدوا منازلهم ينوون الإقامة فيه بعد انتهاء الحرب إلا أنهم يعيشون في الخيام الآن.


حين بدأ الجيش الاسرائيلية هجومه

زارني ابني شمس وزوجته وابنتي وزوجها قبل سبعة أشهر في الخامس من أكتوبر من العام الماضي وقد حضرنا في ذلك اليوم عشاءً رائعاً وأعددنا جميع الحلويات المفضلة لدينا. كانت درجة الحرارة مرتفعة تلك الليلة فجلسنا على سطح المنزل في الهواء الطلق وغنّى لنا ابني الأصغر زين—وهو ذو صوتٍ جميل—وأخذنا جميعاً بالتصفيق والضحك سوياً، ثم ذهبنا للنوم الساعة الثالثة صباحاً تقريباً. وفي يوم الجمعة، 6 أكتوبر، أعددتُ الفتة لوجبة الغداء—وهي الوجبة التقليدية التي نحب تناولها جميعاً في عطلة نهاية الأسبوع—وبعد تناول الغداء عاد أبنائي إلى منازلهم وقمتُ بتنظيف المنزل.

وفي يوم السبت، 7 أكتوبر، استيقظتُ في الساعة الخامسة والنصف صباحاً لتجهيز طفليّ الصغيرين للمدرسة وكانا جاهزين للخروج من المنزل في الساعة السادسة والربع وكنتُ أنوي العودة إلى النوم بمجرد مغادرتهم. وفي الساعة السادسة وثُلث بينما كان ابنايَ في انتظار المصعد في بنايتنا السكنية سمعنا أصوات انفجارات ظننتها في البداية رعداً ولكنّي استدركتُ بعد لحظات أنها أصوات صواريخ. ركض أطفالي إلى داخل المنزل وأسرعتُ لمتابعة الأخبار لمعرفة ما يجري. تأكدنا بعد ساعة أنها حربٌ أخرى وتوجه زوجي مباشرةً إلى أقرب متجر لنا واشترى كل الأشياء التي قد نحتاجها لمدة أسبوع على الأقل.

وفي حوالي الرابعة عصراً من ذلك اليوم سمعنا ضجة في الشارع؛ نظرنا من النافذة فرأينا الناس يركضون ويحملون أمتعتهم ويغادرون منازلهم بعدما أمر الجيش الإسرائيلي بإخلاء الحي الذي نعيش فيه لأنّ قواته ستضرب برج فلسطين الذي يبعد حوالي 60 متراً عن بنايتنا السكنية.

كنا نعيش في الطابق الثاني عشر في هذه البناية السكنية وركضنا بسرعة إلى الشارع لأننا كنا خائفين من انقطاع الكهرباء مما قد يجعل النزول على الدرج صعباً. قصف الجيش الإسرائيلي البرج وتحطمت جميع النوافذ والأبواب في شقتنا وانقطعت الكهرباء. كنا في حالة من الذعر وقررنا الذهاب إلى منزل ابنتي في خانيونس في جنوب غزة لقضاء تلك الليلة فقط على أمل أن نعود إلى منزلنا في اليوم التالي؛ ولكن للأسف لا زلنا عالقين في جنوب غزة بعد مرور أكثر من 200 يوم ومبعدين عن منزلنا بمسافة 30 كيلومتراً. أنا حالياً في غرب مدينة رفح في منزل الضيافة الذي استأجرته ماب لموظفيها حيث نزحتُ ثمانِ مرات حتى الآن؛ ففي المرة الأولى كان النزوح من مدينة غزة إلى مخيم في خانيونس ثم إلى رفح ثم إلى شمال خانيونس ثم إلى وسط خانيونس وأخيراً إلى أربعة أماكن مختلفة في رفح.

"لا يستطيع طفلاي الصغيران تحمل سماع القصف طوال الليل وليس بمقدورهما تحمل فقدان شخص عزيز كل شهر"

إن الوضع في مدينة رفح صعبٌ للغاية وجميعنا ينتظر ليرى ما الذي سيُقدم عليه الجيش الإسرائيلي هناك. نقضي اليوم بكامله في متابعة الأخبار ولا نجدُ أي خبرٍ جيد فجميعها تتضمن قصصاً مروعةً تحدث يومياً كتعذيب وإذلال الفلسطينيين على يد جنود الجيش الإسرائيلي وقتل الأطفال على مرأى والديهم ونزع ثياب النساء وحجابهنّ. هناك العديد من القصص المروّعة التي لا يمكن لعقل بشري أن يتحملها؛ أدعو الله في كل يوم أن أموت قبل أن يتم إذلالي بهذا الشكل.

لا يوجد سوى فرعين مصرفيين في رفح حيث يعملان لخدمة أكثر من مليون شخص. لا يمكنك تخيل جموع الناس هناك فالمئات يقفون في طوابير منذ الخامسة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، وفي معظم الأحيان يعود الناس دون الحصول على المال إما بسبب عدم توفر السيولة أو بسبب انقطاع الإنترنت أو تضرر أجهزة الصراف الآلي؛ إنهم يقفون لأكثر من 12 ساعة تحت الشمس ويشعرون بالإحباط والتعب ويتشاجرون ويدفع بعضهم البعض.

"أتمنى أن ينتهي هذا الكابوس الذي امتد لسبع شهور"

أفتقد ابني الحبيب مجد. كان يعمل كسائق سيارة إسعاف وتطوع كسائق مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أثناء استجابتها لحالة الطوارئ خلال "مسيرة العودة الكبرى"—وهي مظاهرات بدأت في عام 2018م على طول حدود غزة الشرقية خرج فيها المدنيون الفلسطينيون في غزة للمطالبة بإنهاء الحصار وحقهم في العودة إلى أراضيهم المحتلة. لم ينتمِ مجد إلى أي حزب سياسي وكان زملاؤه يلقّبونه بـ"القلب النقي".

أفتقد منزلي أيضاً. لقد كوّنتُ عائلةً جميلة وعملتُ لمدة 35 عاماً ووضعت كلَّ مدخراتي في هذا المنزل الذي بنيته ليتسع لكل أفراد عائلتي عندما يكبرون ولكنه دُمّر في ثانية واحدة فقط بصاروخ من الجيش الإسرائيلي.

أحاول أن أشغل نفسي بالعمل قدر الإمكان لأن وقت الفراغ يكون صعباً جداً فإما أن أتابع الأخبار التي تزداد سوءً يوماً بعد يوم أو أن أتصفح الصور على هاتفي وأتذكر حياتي قبل الحرب.

أنظر إلى صور ابني الذي قُتل وصور حفلات زفاف أبنائي وصور منزلي الجميل الذي سُحق؛ النظر إلى تلك الصور من بين كل ما فقدناه هو صدمةٌ نفسية حقيقية. أبكي لساعاتٍ وساعات قبل أن يصيبني التعب الشديد ولا أعود قادرة على ذرف المزيد من الدموع وأخلد للنوم.

أحمد الله أنّني أعيش حالياً في منزل الضيافة الذي استأجرته ماب ولكنّ أبنائي يعيشون في الخيام والحياة في الخيام صعبة للغاية فلا يوجد مياه نظيفة ولا أثاث ولا دورات مياه وينام الأطفال على الرمال، مواجهين الحرارة المرتفعة في النهار والبرد في الليل. إنها حياةٌ بائسة وتجعلني أحياناً أفكر أن الموت سيكون أفضل منها.

أتمنى أن تنتهي هذه الحرب وأن ينتهي هذا الكابوس الذي امتد لسبعة أشهر. أتمنى العودة إلى المكان الذي كان فيه منزلنا ذات يوم لأبحث عن أي شيءٍ يحمل ذكريات حياتنا قبل الحرب وأتمنى أن أجدَ شيئاً خاصاً بمجد ليكون لدي ما يذكّرُني به. فأنا لم أتمكن حتى من وداعه. أتمنى أن أتمكن من العودة إلى مدينة غزة لأجد أي شيءٍ تحت الركام.

أتمنى أن يتمكن طفلاي الصغيران من الانتقال إلى مصر حتى تنتهي الحرب فهذانِ القلبان الصغيران لا يستطيعان تحمل سماع القصف طوال الليل وليس بمقدورهما تحمل فقدان شخص عزيز كل شهر. رؤية أشلاء الأطفال في عمرهما تزيد من معاناتهما خلال سيرهما بين ركام المنازل ولا أستطيع تحمل فكرة أن يكونا مثل أولئك الأطفال يوماً ما.

 

كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.


نرجو دعمكم الكريم للمساهمة في استجابتنا الطارئة اليوم

 

هذه التدوينة الرابعة من سلسلة "أصوات من غزة" حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. تابعونا لقراءة التدوينات المقبلة.

في يمين الصورة: نورز أبو لبدة مع اثنين من أبنائها

Stay updated – join our mailing list

Sign up for our newsletter to receive all the latest updates from our programmes, campaigns and fundraising appeals.

* indicates required
Your Interests